الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

التعرف على الشیخ العلامة علي اصغر كرباسجيان

من مقدمة كتاب رسائل الأستاذ

من نمی گويم سمندر باش يا پروانه باش
چون به فكر سوختن افتاده ای جانانه باش
أنا لا أقول كن كالفراشة أو"السمندل"

لكن إن فكرت أن تضطرم (بالعشق) فليكن ذلك من أعماقك وبكل وجودك
ولد الأستاذ العلامة علي أصغر كرباسجيان سنة 1332 هـ.ق أي 1913ميلادية وارتدى الزّي الدّيني في مقتبل شبابه وذلك بعد التّفوق في المرحلة الإبتدائية، ليتّجه لاحقاً نحو الخطابة والمنبر، حيث كانت تستحوذ خطبه على إعجاب الكثير من المستمعين.
وفي تلك المرحلة، هيأ له أستاذ الأخلاق الشيخ الجليل رضا دربندي مجال الإستفادة من مجلس الأستاذ الكبير المرحوم الشّيح آقا بزرك السّاوجي، وبالرّغم من أن الأستاذ العلامة كان قد استفاد من التتلمذ عند علماء وكبار كثيرين قبلهما، إلا أن الشّوق المتأجّج من لقاء هذين الزّاهدين الحكيمين أثّر في نفسه فشكّل انطلاقة جديدة في حياته.

در خرقه چو آتش زدی ای عارف سالك
جهدی كن و سرحلقه ی رندان جهان باش
لئن أحرقت جبّة التصوف أيها العارف السّالك
فاجهد لتكون رائد الكيّسين في العالم

ترك شيخنا الشّاب المنابر الحاشدة، ليتابع تحصيله للعلوم الدّينية في مدرستي "الصّدر" و"مروي" في طهران. ووضع في ذلك جلّ اهتمامه دون أن يعير الدنيا والماديات أدنى انتباه. وبعد فترة وجيزة، أصبح الجميع يقر ويشهد بتميّزه ودقّته في تحصيل العلوم والمعارف الدّينية.
هاجر في سنة 1364 هـ.ق أي 1954 ميلادية إلى قم المقدسة ليتابع تحصيل العلوم الدّينية حيث استفاد من دروس كبار العلماء كالمرحوم آية الله العظمى البروجردي والمرحوم العلامة الطّباطبائي. وبين العامين 1372و1374 هـ.ق واموافق لعامين 1962 و1964 ميلادية قام بإسداء خدمة كبيرة لعامة الناس من خلال تدوينه كتاب «رسالة توضيح المسائل».
سابقاً، لم يكن الحصول على الأحكام الشرعية ميسراً إلا عن طريق العلماء وناقلي المسائل الشّرعية، أومن خلال الرّسائل العربية والفارسية بعباراتهما الصّعبة. فقدّم بتدوين رسالة توضيح المسائل بالفارسية مساعدة كبيرة للمتديّنين حيث يسّر لهم الحصول على الأحكام الشرعية. ومنذ ذلك الوقت يدين له ملايين الأشخاص الناطقين بالفارسية من مقلدي المراجع الدينية بتقليدهم، رغم أنه أبى أن يذكر اسمه على كتب توضيح المسائل.
لم يكن ليصرفه أي عمل عن التوجه إلى الله سبحانة وتعالى وأوليائه؛ وكان يتّسم بإرادة صلبة وعشق خالص لأهل بيت العصمة والطهارة وخاصّةً أمير المؤمنين عليه السلام والصّدّيقة الطّاهرة عليها السلام. وكان همّه الدّائم إحراز أن يكون أبيض الوجه عند خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله.
وأخيراً في سنة 1374 هـ.ق أي 1964 ميلادية ومن دون أن يعير تجاربه ومقامه العلمي أي اهتمام، وبعزمٍ وإرادة، سافرإلى طهران للعمل على تربية جيل الشّباب، حيث أسّس هناك ثانوية «علوي» بتشجيع ودعم الحاج هادي المقدّس العالم الذي يتمتّع بشعبيّة لدى النّاس بالإضافة إلى دعم جمع آخر. ومن بداية الطريق استفاد في إدارة المدرسة من خدمات الأستاذ المرحوم رضا روزبه رحمة الله عليه.
لم يكن العلامة (ره) يعير أي عمل أهمية تفوق تلك التي يبديها لتربية وهداية الإنسان حيث أنه وجد ضالته في هذا المجال. وأصبح العلامة، رجل الفكر والعمل، وبعون إلهي، مؤسس أحد أكثر الأنظمة التّعليمية تطوراً، وذلك دون التّقيد بمصطلحات التّربية والتّعليم وقد صرف بقية عمره في العمل في هذا المجال، أي التّربية والتّعليم.
بعد عدة سنوات من تأسيس ثانوية «علوي»، أسّست مدرسة «علوي» الإبتدائية ومدرسة «نيكپرور» (أي مربي الأخيار) المتوسطة ومدرسة «نيكان» (أي الأبرار) وذلك ببركة جهوده القديرة.
ومن ثمار تربية الأستاذ العلامة، أسّست عشرات المدارس والمؤسسات في مختلف أنحاء إيران بهمّة تلاميذه. وكان عدد تلاميذه ومحبي مقامه العالي يزداد مرور الزمن؛ وكانوا يودّون جميعاً شكر الأستاذ بطريقة ما، كأن يهيئون له أسباب الراحة والرفاهية إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك لأن الأستاذ كان قد اختار منزلاً بسيطاً ومتواضعاً، مع ذلك كان مفعماً بالنّورانية والصّفاء والسّكينة. فكان كل من يدخل هذا البيت ويزور الأستاذ يلمس بوضوح أمرين، الزّهد والإخلاص.

ولقد عبّر أحد تلاميذه عن شعوره بعد ارتحال الأستاذ بعدة أيام كالتالي:
توجّهت في يوم الخميس إلى قرية ونك، أكاد أختنق بعبرتي حزناً، كان الجميع يدخل منزل ذلك الرجل العظيم بهدوء حيث وجدت نفسي قرب منزل الأستاذ فشعرت حينها وكأن جميع خاطراتي عادت حية من جديد... كان الباب الخشبي القديم نفسه.
تقرع الباب، فتسمع وقع أقدام الأستاذ يقترب مسرعاً ليفتح لك، يستقبلك. يقول بملء صوته وبفرح: سلام! ... تفضل. تدخل الغرفة، الغرفة نفسها دائماً! دون أي تغيير أو اختلاف، البساط العتيق نفسه والسّتائر البيضاء نفسها المثبّتة بمسامير على الحائط. لا يمهلك كثيراً فيجلس إلى جانبك بتواضع وأدب، بثوبه النّظيف والبسيط. لا حاجة لأن تبثّ ما في صدرك. يبدأ بالحديث من دون تأخير:
«دعنا نستغلّ هذه الدّقائق المعدودة لأنه لو نعطي الدنيا بأسرها، لن تعود ثانيةً».
يضع أمامك مخطوطة. تقرؤها أنت وهو يضطّرك لأن تدقق وتتأمل. يدخل حديثه إلى قلبك بسماع أنفاسه المصحوبة بلا إله إلا الله. تهدأ. حصلت على أجوبة أسئلتك، تود لوتستطيع الجلوس معه لساعات، لكن الأستاذ قد سكت. تدرك أن عليك الرحيل. تستأذنه لذلك، فيشيّعك إلى الباب، دون أي تكبر، يبادلك عبارات الوداع قائلاً: مع السّلامة ... مع السّلامة.
وفجأة، تطأ قدماك الدنيا ثانيةً بعد المكوث في تلك الجنة الصغيرة.

سنة 1419 هـ.ق أي 1999ميلادية وصل خبر مؤسف لطلاب ومحبّي الأستاذ: أصيب مؤسس المدرسة الفكرية الحديثة للتّربية والتّعليم بمرض السرطان!
رغم ذلك، استمرّ الأستاذ في متابعة أمور التّربية والتّعليم وشؤون المعلمين عن كثب، كما بقي متابعاً لهموم ومشاكل الناس.
وبعد مدة من الزّمن، اشتدّ عليه المرض وظهرت على الأستاذ بوادر التعب والإرهاق، حتى تمكن منه في النهاية لتحلق روحه الطاهرة إلى بارئها وذلك في منزله عند الساعة الحادية عشرة من ليلة الخميس بعيد طلوع هلال شهر جمادي الآخرة من سنة 1424هـ. ق الموافق لسنة 2003 ميلادية.
تعجز الكلمات عن التّعبير عن نهج الأستاذ التّربوي. فقد كان يجعل التربية الدينية تدخل في قلوب المستمعين بطريقة حلوة ودقيقة، ولم يكن ذلك إلا من خلال اعتقاده بـ: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم».
جميع تلامذة الأستاذ لا يزالون يذكرون كم كان مجلس الأستاذ يبعث في الإنسان السكون الملكوتي، فقد كانت مجالسته تفصل الإنسان عن الدّنيا وعن متعلقاتها، وتتيح للرّوح التّحليق للحظات في عالم آخر.

مرغ باغ ملكوت ام نی ام از عالم خاک
چند روزی قفسی ساخته اند از بدنم
إنما أنا طير حديقة الملكوت ولست من عالم التراب
وإنما صنعوا لي قفساً من جسدي لبضعة أيام

رغم كل محاولات ذلك الرجل الكبير في إخفاء كمالاته، وامتناعه دائماً عن تقبل مدحه وتمجيده، إلا أن التّواضع والزّهد والهمّة العالية وعدم التّكلف وعشرات الصّفات الأخرى هي من الأمور التي تتجلّى بوضوح في حياة الأستاذ. فقد كان درس أخلاقه بحد ذاته حياة للقلوب، وكانت حياته درسا في الأخلاق.
لم تكن الأمور التي أشرنا إليها سوى زاوية من صفاته وكمالاته.

شرح اين هجران واين سوز جگر
اين زمان بگذار تا وقت ديگر
دع تفصيل هذا الهجر وهذه الحسرات
هذا الزمان لوقت آخر

كرباسجيان، علي أصغر. (2015) رسائل الأستاذ 1. (9-14). بيروت: دارالمحجة البيضاء.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

شكرا لكم